فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى (1)}
افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه، وغرض ذلك ما تقدم آنفاً.
ومناسبة المُقْسَممِ به للمُقْسَممِ عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما يماثلان النور والظلمة وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر والأنثى ذرية صالحة وغير صالحة.
وفي القسم بالليل وبالنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانه الجانِب الذي يغشاه من الأرض.
ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين، لأن ذلك أقوى أحواله، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهوره على الأرض كذلك.
وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله: {والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها} في سورة الشمس (3، 4).
واختير القسم بالليل والنهار لمناسبتِه للمقام لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.
وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكسَ ما في سورة الشمس لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور وأيَّامئذٍ كان الكفر مخيماً على الناس إلا نفراً قليلاً، وكان الإِسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بالإِشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله: {إن سعيكم لشتى} إلى قوله: {إذا تردى} [الليل: 4 11].
وفي قوله: {إن سعيكم لشتى} إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله: {فأما من أعطى} [الليل: 5] الآية ليتمكن تفصيله في الذهن.
وحذف مفعول {يغشى} لتنزيل الفعل منزلة اللازم لأن العبرة بغشيانه كلَّ ما تغشاه ظلمته.
وأسند إلى النهار التَجلي مدحاً له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء.
والتجلّي: الوضوح، وتجلي النهار: وضوح ضيائه، فهو بمعنى قوله: {والشمس وضحاها} [الشمس: 1] وقوله: {والضحى} [الضحى: 1].
وأشير إلى أن ظلمة الليل كانت غالبة لضوء النهار وأن النهار يعقبها والظلمةُ هي أصل أحوال أهل الأرض وجميع العوالم المرتبطة بالنظام الشمسي وإنما أضاءت بعد أن خلق الله الشمس ولذلك اعتبر التاريخ في البدء بالليالي ثم طَرأ عليه التاريخ بالأيام.
والقول في تقييد الليل بالظرف وتقييد النهار بمثله كالقول في قوله: {والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها في السورة السابقة} [الشمس: 3، 4].
و{ما} في قوله: {وما خلق الذكر والأنثى} مصدرية أقسم الله بأثر من آثار قدرته وهو خلق الزوجين وما يقتضيه من التناسل.
و{الذكر والأنثى}: صنفا أنواع الحيوان.
والمراد: خصوص خلق الإنسان وتكونه من ذكر وأنثى كما قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات: 13] لأنه هو المخلوق الأرفع في عالم الماديات وهو الذي يدرك المخاطَبون أكثرَ دقائقه لتكرره على أنفسهم ذُكورهم وإناثهم بخلاف تكوّن نسل الحيوان فإن الإنسان يدرك بعض أحواله ولا يُحصي كثيراً منها.
والمعنى: وذلك الخلققِ العجيب من اختلاف حالي الذكورة والأنوثة مع خروجهما من أصل واحد، وتوقف التناسل على تزاوجهما، فالقسم بتعلققٍ مِن تعلققِ صفات الأفعال الإلهية وهي قِسْم من الصفات لا يُختلف في ثبوته وإنما اختلَف علماء أصول الدين في عدّ صفات الأفعال من الصفات فهي موصوفة بالقدم عند الماتريدي، أو جَعْلِها من تعلق صفة القدرة فهي حادثة عند الأشعري، وهو آيل إلى الخلاف اللفظي.
وقد كان القسم في سورة الشمس بتسوية النفس، أي خلق العقل والمعرفة في الإِنسان، وأما القَسَم هنا فبِخلق جسد الإِنسان واختلاف صنفيه، وجملة: {إن سعيكم لشتى} جوابُ القسم.
والمقصود من التأكيد بالقسم قولُه: {وما يغني عنه مالُهُ إذا تردى} [الليل: 11].
والسَّعي حقيقته: المشي القوي الحثيث، وهو مستعار هنا للعمل والكدّ.
وشتّى: جمع شتيت على وزن فَعْلَى مثل قَتِيل وقَتْلى، مشتق من الشتِّ وهو التفرق الشديد يقال: شتَّ جمعُهم، إذا تفرقوا، وأريد به هنا التنوع والاختلاف في الأحوال كما في قول تأبط شرّاً:
قليل التشكي للملم يصيبه ** كثير الهوى شَتَّى النَّوى والمسالك

لاوهو استعارة أو كناية عن الأعمال المتخالفة لأن التفرق يلزمه الاختلاف.
والخطاب في قوله: {إن سعيكم} لجميع الناس من مؤمن وكافر.
واعلم أنه قد روي في الصحيحين عن علقمة قال: دخلت في نفر من أصحاب عبد الله (يعني ابنَ مسعود) الشام فسمع بِنا أبو الدرداء فأتانا فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ فقلت: أنا.
قال: كيف سمعتَه يقرأ؟ {والليل إذا يغشى} قال سمعته يقرأ: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى} قال: أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا.
وسماها في (الكشاف): قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أي ثَبت أنه قرأ بها، وتأويل ذلك: أنه أقرأها أبا الدرداء أيام كان القرآن مرخَّصاً فيه أن يُقرأ على بعض اختلاف، ثم نُسخ ذلك الترخيص بما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو الذي اتفق عليه قراء القرآن.
وكتب في المصحف في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وقد بينت في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير معنى قولهم: قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى (5)}
{فأما} تفريع وتفصيل للإِجمال في قوله: {إن سعيكم لشتى} [الليل: 4] فحرف (أمَّا) يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى: مَهما يكن من شيء، والتفصيل: التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرَد بعضها عن بعض بحالة هي التي يُعتنَى بتمييزها.
وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه} في سورة الفجر (15).
والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور، ولكن جعل التفصيلُ ببيان الساعين بقوله: {فأما من أعطى} لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويُلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة:
وقَد خِفت حتى ما تزيد مخافتي ** على وعللٍ في ذي المَطارة عَاقِل

أي على مخافة وَعِل.
ومنه قوله تعالى: {ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر} إلخ في سورة البقرة (177).
وقوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر} [التوبة: 19] الآية، أي كإيمان من آمن بالله.
وانحصر تفصيل (شتى) في فريقين: فريق ميسَّر لليسرى وفريق ميسَّر للعسرى، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير، والتحذير من الشر، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى: {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} في سورة الزلزلة (6-8).
ويجوز أن يجعل تفصيل شتى هم {من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى}، و{منْ بخل واستغنى وكذب بالحسنى} وذلك عدد يصح أن يكون بياناً لشتى.
و{مَن} في قوله: {من أعطى} إلخ وقوله: {من بخل} إلخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدِّق بالحسنى.
وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأعتقه ليُنجيه من تعذيب أمية بن خلف، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوضَ أمية بن خلف، وهم وهَم.
وقيل: نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي.
وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسببُ النزول لا يخصص العموم.
وحُذف مفعول {أعطى} لأن فعل الإِعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض، يُنزَّل منزلَة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال (ولذلك يسمى المالُ الموهوب عَطاءَ)، والمقصود إعطاء الزكاة.
وكذلك حُذف مفعول {اتقى} لأنه يعلم أن المقدّر اتّقى الله.
وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان، فالمعنى: فأما من كان من المؤمنين كما في قوله تعالى: {قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين} [المدثر: 43 44]، أي لم نك من أهل الإيمان.
وكذلك فعل {بَخل} لم يُذكر متعلقه لأنه أريد به البخل بالمال.
و{استغنى} جُعل مقابلاً لـ: {اتَّقى} فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمْرِ الله ودعوته لأن المصرَّ على الكفر المعرِضَ عن الدعوة يَعُد نفسه غنياً عن الله مكتفياً بولاية الأصنام وقومِه، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استحباب بمعنى أجاب.
وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال، فتكون السين والتاء للطلب، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين.
والحُسنى: تَأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفَة لموصوف مقدر، وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث اللفظ ويحتمل أموراً كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة.
وقد يصير هذا الوصف علماً بالغلبة فقيل: الحسنى الجنة، وقيل: كلمة الشهادة، وقيل: الصلاة، وقيل: الزكاة.
وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها.
وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان.
ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى.
ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله: {وكذب بالحسنى}.
والتيسير: جعل شيء يسيرَ الحصول، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيراً، أي غير شديد، والمجرور باللام بعده هو الذي يسهَّل الشيءُ الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر، كما في قوله تعالى: {ويسر لي أمري} [طه: 26] وقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17].
واليسرى في قوله: {لليسرى} هي ما لا مشقة فيه، وتأنيثها: إما بتأويل الحالة، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة، وهي حالة النعيم، أو على تأويلها بالمكانة.
وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد.
ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه، أي الملائم.
والعسرى: إما الحالة وهي حالة العسر والشدة، أي العذاب، وإما مكانته وهي جهنّم، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى: {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} [المدثر: 9، 10]، فمعنى: {فسنيسره} ندرّجُهُ في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية، فالأعمال اليسرى هي الصالحة، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال.
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مراداً منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربي} [يوسف: 98].
وحرف (ال) في (اليسرى) وفي (العسرى) لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني.
وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر إذ جُعل ضمير الغيبة في {فسنيسره لليسرى} العائدُ إلى {من أعطى واتقى} هو الميسرَ، وجعل ضمير الغيبة في {فسنيسره للعسرى} العائدُ إلى {من بخل واستغنى} هو الميسرَ، أي الذي صار الفعل صعبُ الحصول حاصلاً له، وإذ وقع المجروران باللام (اليسرى) و(العسرى)، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بَخل، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين:
الأولى: إيفاء فعل (نيسر) على حقيقته وجَعْلُ الكلام جاريا علي خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام: فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولابد من مقتض للقلب، فيصار إلى أن المتقضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسَّر ميسراً له والميسر له ميسراً على نحو ما وجهوا به قول العرب: عرضت الناقة على الحوض.
والثانية: أن يكون التيسير مستعملاً مجازاً مرسلاً في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له، وتكون اللام من قوله: {لليسرى} و{للعسرى} لام التعليل، أي نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى، فالمراد باليسرى الجنة وبالعُسرى جهنم، على أن يكون الوصفان صارا علماً بالغلبة على الجنة وعلى النار، والتهيئةُ لا تكون لذات الجنة وذاتت النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخُول اليسرى ولدخول العسرى، أي سنعجّل به ذلك.
والمعنى: سنَجْعل دخول هذه الجنةَ سريعاً ودخولَ الآخِر النارَ سريعاً، بشبه الميسَّر من صعوبة لأن شأن الصعب الإِبطاءُ وشأن السهل السرعةُ، ومنه قوله تعالى: {ذلك حشر علينا يسير} [ق: 44]، أي سريع عاجل.
ويكون على هذا الوجه قوله: {فسنيسره للعسرى} مشاكلةٌ بُنِيت على استعارة تهكمية قرينتها قولُه: (العسرى).
والذي يدعو إلى هذا أن فعل نيسر نصبَ ضمير {من أعطى واتقى وصدَّق}، وضمير {من بَخل واستغنى وكذَّب}، فهو تيسيرٌ ناشئ عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى {اتَّقى} أو معنى {استغنى}، فالأعمال سابقة لا محالة.
والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها.
ويجوز أن يكون معنى الآية: أن يُجعل التيسير على حقيقتِهِ ويجعل اليسرى وصفاً أي الحالة اليسرى، والعسرى أي الحالة غير اليسرى.
وليس في التركيب قلب، والتيسير بمعنى الدوام على العمل، ففي (صحيح البخاري) عن علي قال: «كنا مع رسول الله في بقيع الغَرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مَقْعَده من الجنة ومَقْعَدَه من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكِلُ؟ فقال: اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له.
أما أهل السعادة فَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}»
اهـ.
فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله: «ما من أحد إلا وقد كتبَ مقعده» إلخ معناه قد علم الله أن أحداً سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُوافيَ عليه، أو سيعمل بعمل أهل النار حتى يُوافِيَ عليه، فقوله: «وقد كتب مقعده» جعلت الكتابة تمثيلاً لعلم الله بالمعلومات علماً موافقاً لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصاً دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط.
فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس، ومعنى جوابه: أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة.
وذُكر مقابله وهو العمل السيئ إتماماً للفائدة ولا علاقة له بالجواب.
وليس مجازه مماثلاً لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل السعادة فتعين أن يكون تيسيراً للعمل، أي إعداداً وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها.
فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعقب كلامه بأن قرأ: {فأما من أعطى واتقى} الآية لأنه قرأها تبييناً واستدلالاً لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومَحَلّ الاستدلال هو قوله تعالى: {فسنيسره}.
فالمقصود منه إثبات أن من شؤون الله تعالى تيسراً للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلاً للسعادة كالإيمان أو للشقاوة كالكفر، أم كان للعمل مما يزيد السعادة ويُنقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمناً لأن ثبوت أحد معنَيَي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلاً لثبوت التيسير مِن أصله.
أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله: «اعملوا» لأن الآية ذكرت عملاً وذكرت تيسيراً لليسرى وتيسيراً للعسرى، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنياً بها السعادة والعسرى معنياً بها الشقاوة، وما صدْق السعادة الفوز بالجنة، وما صدْقَ الشقاوة الهُويُّ في النار.
وإذ كان الوعدُ بتيسير اليُسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإِعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات، أي جزاءٌ عن فعلها: فالمتيسر: تيسير الدوام عليها، وتكون اليسرى صفة للأعمال، وذلك من الإِظهار في مقام الإِضمار.
والأصل: مستيسر له أعمالَه، وعدل عن الإِضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها مُيسرة من الله كقوله تعالى: {ونيسرك لليسرى} في سورة الأعلى (8).
وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها، وبين تعلُّق خطابه إياهم بشرائعه، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على الجنة أو الوقوع في جهنم.
وإنما خص الإِعطاء بالذِكْر في قوله: {فأما من أعطى واتقى} مع شمول {اتقى} لمفاده، وخص البخل بالذكر في قوله: {وأما من بخل واستغنى} مع شمول {استغنى} له، لتحريض المسلمين على الإِعطاء، فالإِعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين.
وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم، ومحسن الطباق، أربع مرات بين {أعطى} و{بخل}، وبين {اتقى}، و{استغنى}، وبين و{صدق} و{كذب} وبين (اليسرى) و(العسرى).
وجملة: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} عطف على جملة {فسنيسره للعسرى} أي سنعجل به إلى جهنم.
فالتقدير: إذا تردى فيها.
والتردّي: السقوط من علوّ إلى سفل، يعني: لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئاً من عذاب النار.
و{مَا} يجوز أن تكون نافية.
والتقدير: وسَوْف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ.
ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف.
والمعنى: وما يغني عنه ماله الذي بخل به.
رَوى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس: أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمرٌ أكله صبيةٌ لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة، فشكا المسلم ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة فلم يفعل، وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اشترِها مني بنخلة في الجنة فقال: «نعم والذي نفسي بيده»، فأعطاها الرجلَ صاحب الصبية قال عكرمة قال ابن عباس: فأنزل الله تعالى: {والليل إذا يغشى} [الليل: 1] إلى قوله: {للعسرى} وهو حديث غريب، ومن أجل قول ابن عباس: فأنزل الله تعالى: {والليل إذا يغشى} قال جماعة: السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيراً ما يقع في كلام المتقدمين قولهم: فأنزل الله في كذا قوله كذا، أنهم يريدون به أن القصّة ممّا تشمله الآية.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كمْ من عَذْق رَدَاحْ في الجنة لأبي الدحداح». ولمح إليها بشار بن برد في قوله:
إن النُحيلة إذْ يميل بها الهوى ** كالعَذق مال على أبي الدحداح

اهـ.